أثارت القوة المخفية لتنويم المغناطيسي بغموضها المحير الجدل عبر القرون بين الأطباء وعلماء النفس ورجال السلطة في كثير من البلدان. فمؤيد التنويم المغناطيسي يقولون إنها طريقة سليمة وآمنة لاستثمار القوى الكامنة في دماغ الإنسان، بينما يقول معارضوه أنه من أخطر فنون السحر والشعوذة. هل هو حقا قوة يمكن استخدامها لأغراض الخير أو الشر؟ أم هو مجرد متعة غير مؤذية يمارس على خشبة المسرح للتسلية؟ أدان الخبراء العلمين في الجمعة الطبية البريطانية للتنويم المغناطيسي باعتباره أمرا محفوفا بالمخاطر. بينما أعلنت سلطات طبية أخرى أن التنويم المغناطيسي أداة نفسانية قوية يمكن استخدامها في شفاء المرضى. بدأ الأطباء وعلماء النفس في أوروبا بدراسية موضوع التنويم المغناطيسي بعمق في القرن الثامن عشر. ففي هذا القرن برز عالم التنجيم الدكتور النمساوي فرانز ميسمر وقال بأن النجوم البعيدة تؤثر بقوتها المغناطيسية الضعيفة في سلوك الإنسان. وإذا كان الأمر حقا كذلك، فإن تعريض المرضى لقوى مغناطيسية توضح مباشرة فوق رؤوسهم يمكن أن تأتي بنتائج أكثر عمقا ووضوحا. أخذ الدكتور ميسمر يعالج في عيادته بفينا حالات الهستيريا، والجنون، والاضطرابات العصبية، ويعلن عن شفاء أمثال هؤلاء المرضى بعد تعريضهم لحالات شبيهة بحالة الحلم حيث يكون المنوم في نصف وعيه. ثم أدرك ميسمر أنه بالإمكان الاستغناء عن استخدام القضبان المغناطيسية، عندما أخذ يحصل على النتائج نفسها باستخدام أنامله، وصوته الهامس، في الضوء الخافت. وهنا قال ميسمر أن هذه ليست قوة مغناطيسية وإنما هي قوة غامضة تسري بينه وبين مرضاه، وأسماها المغناطيسية الحيوانية. بعد أم أخذ مئات المرضى يراجعون الدكتور ميسمر طلبا للشفاء، أخذ الناس يتحدثون عن ظاهرة الميسمرية. غير أن السلطات في فينا رأت أن ما يجري في عيادة ميسمر هو جلسات استحضار روحية ليس لها علاقة بالطب، ومنعته من ممارسة عمله. انتقل ميسمر إلى باريس في عام 1770، حيث أثار أسلوبه الثوري في العلاج عاصفة مجلجلة في العاصمة الفرنسية. وبحلول عام 1784 بدأ العديد من أتباعه باستخدام الميسمرية في علاج مرضاهم مما حدا بعلماء وأطباء الأكاديمية الفرنسية إلى إجراء التحقيقات في الموضوع بناء على طلب من الملك لويس السادس عشر الذي خشي أن تؤثر الميسمرية في الدراسة التقليدية للعلوم الطبية. في هذا الوقت كان الرئيس السابق للجمعية الطبية في ليون، البروفيسور تشاسنت دي بويسيغور، قد لاحظ أنه يستطيع السيطرة على أعمال مرضاه بعد تنويمهم بمجرد اقتراح ما يجب عمله. وهكذا بعد الاطلاع على نتائج تحقيقات الأكاديمية الفرنسية، وعلى الظاهرة التي أشار إليها البروفيسور دي بويسيغور، قرر الملك لويس حظر الميسمرية لخطرها على المواطنين الفرنسيين. هكذا انتقل ميسمر في عام 1789 إلى سويسرا حيث قضى ما تبقى له من العمر، وتوفي هناك كشخص مخمور بعد 36 سنة. يبدو أنه ظل يؤمن حتى آخر أيامه بأنه استطاع أن يكشف عن القوى الكامنة في العقل البشري ويستثمرها لخير الناس وعلاج المرضى. كما أنه قضى سنواته الأخيرة وهو يشعر بالمرارة لرفض طريقته ليس من قبل السلطات الحكومية فحسب، وإنما من قبل السلطات الطبية كذلك. مع ذلك، عاشت الميسمرية بعد ميسمر، ولم تمت بموته. وبرغم أنها ظلت فترة مستبعدة من ميدان الطب، فإنما ظلت تمارس في مجال التسلية والعروض المسرحية. في عام 1842 جاء عالم النفس الاسكتلندي العنيد جيمس برايد الذي توصل إلى تنويم مرضاه بجعلهم يركزون أبصارهم على ضوء يوضع أمام أعينهم. لقد شبه برايد حالة مرضاه كمن يمشي وهو نائم وأطلق على عمله ـ لأول مرة ـ عبارة التنويم المغناطيسي. أيقظ عمل برايد التجارب والأبحاث الطبية من جديد. وأخذ بعض الأطباء يعلن أنه يجري عملياته الجراحية تحت تأثير التنويم المغناطيسي بدون تخدير وبدون ألم. غير أن الهيئة الطبية في بريطانيا ظلت تنظر إلى الأمر باعتباره نوعا من الخزعبالات والخرافة. وعاد التنويم المغناطيسي من جديد يقتصر على مجال العروض المسرحية وتسلية الجمهور. مع ذلك ظل هناك أطباء يؤمنون بقوة التنويم المغناطيسي وتأثيره. فكان هناك، على سبيل المثال طبيب مشهور في القرن التاسع عشر يدعى رودلف هايدينهين، كان يختم محضراته بتنويم بعض زملائه المرموقين ويجعلهم يمشون على أربع، وينبحون كالكلاب، أو يموءون كالقطط ويلعقون الحليب من صحاف وهمية. كما أن انتشار التنويم المغناطيسي في العهد الفيكتوري أساء إليه، حيث كان المنومون يحرقون المتطوعين ويجعلونهم مدعاة للسخرية ومثارا للضحك عندما يجعلونهم يخلعون ثيابهم أو يعزفون الموسيقى على آلات وهمية غير موجودة أمامهم. وحتى في القرن العشرين، حدث ذات مرة أن تم تحقير مندوبي الBBC عندما ذهبوا لإجراء مقابلة مع أحد المنومين المغناطيسيين. ففي عام 1946، وكان التلفزيون في أيامه الأولى، أخذ فريق من الBBC يجري مقابلة مع منوم مغناطيسي فقام الأخير بتنويم الفريق باستثناء المخرج. وعندما طلب المخرج من الفريق متابعة العمل لم يتلق أية استجابة لأن الجميع كانوا منومين. ومنذ ذلك اليوم أخذت الBBC عهدا على نفسها بعدم نقل عروض مباشرة عن التنويم المغناطيسي. بعد ذلك بست سنوات، تلقت عروض التنويم المغناطيسي في عام 1952 ضرية قوية، عندما نوم رالف سلاتر المتطوعة جريس رينز باث وأعادها إلى أيام طفولتها، وجعلها تسلك أما الجمهور في مسرح لندن سلوك الأطفال، مما جعل السيدة جريس ترفع دعوى قضائية ضد المنوم المغناطيسي تتهمه فيها بأنه تسبب في إصابتها بالكآبة والقلق حيث أمضت عدة شهور بعد الحادثة وهي تبكي كالأطفال. وقد ربحت السيدة جريس القضية ونالت تعويضا عن الأذى الذي لحق بها. وفي ذلك العام أقر البرلمان قانونا يمنع عروض التنويم المغناطيسي على خشابات المسارح. وقد استمر ذلك المنع ساري المفعول حتى عام 1988. يبد أن ممارسات التنويم المغناطيسي استمرت في ميادين أخرى في كثير من البلدان. ففي الولايات المتحدة، كانت دائرة الشرطة في مدينة بوسطن تستعين بوحدة من خبراء التنويم المغناطيسي. وقد أفاد خبراء هذه الوحدة أنهم كانوا في 75 بالمائة من الحالات يحصلون على الشهود أو الضحايا على أدلة جديدة أثناء عمليات التنويم المغناطيسي. ويفسر المفتش باتريك برادي تلك النتائج، فيقول: إن شهود حالات العنف وضحاياها يميلون بطريقة آلية إلى نسيان ما شهدوه أو خبروه من عنف ويحاولون محوه من أذهانهم، ولذلك في محاولة طبيعية لحماية ذواتهم من الاضطرابات النفسية والفزع العاطفي. ونحن في عمليات التنويم المغناطيسي نزيل العوائق العقلية غير الواعية ونجعل الشاهد يتذكر ما يحاول نسيانه. وقد فعلا من ضحايا العنف أثناء تنويمهم على أوصاف الجناة أو على رقم سيارة كان قد نسي. يضيف رجل الشرطة النيويوركي السيرجنت تشارلز ديجيت الذي استخدم التنويم المغناطيسي في أكثر من 400 حالة أثناء خدمته، فيقول: يجب تسجيل أقوال الشاهد المنوم على أشرطة فيديو لعرضها في المحكمة، لإثبات أن الشاهد تكلم وحده دون أي تدخل أو إيحاء من المنوم، وإلا فإن الأدلة أو الشهادة تكون غير مقبولة وترفض. وأنا أعتقد أن المنوم لا يستطيع أن يجعل المنوَم يقول أشياء غير حقيقية رغما عنه. وكل ما في الأمر أن التنويم المغناطيسي يقدح زناد الذاكرة ويجعلها تطلق مخزونها. ولربما يذكر المنوم بعض الأكاذيب التي يتوهمها، غير أن المزيد من التحقيقات يكشف الحقيقة. يبد أن السلطات الأمنية البريطانية، بصرف النظر عن الخبرات الأمريكية، ظلت تتلقى النصح بعدم اللجوء إلى التنويم المغناطيسي للحصول على أدلة في الجرائم الغامضة أو المعقدة. ففي عام 1988 حذر وزير الداخلية دوجلاسي هيرد المحاكم بعدم الأخذ بالشهادات التي تتم أثناء التنويم المغناطيسي. من طريف ما يروى في هذا المجال أن مدرب السياقة دوغ بياتي كان ينوم تلامذته قبيل تقدمهم لإجراء الفحص ليحافظوا على هدوء أعصابهم، حسب قوله. ويبدو أن طريقته هذه كانت فعالة بحيث أن 8 من كل 10 من تلامذته كانوا ينجحون في الاختبار بعد تنويمهم مغناطيسيا. كما أن الممثلة الكوميدية والكاتبة ليلي توملين قالت: إنها نومت نفسها مغناطيسيا لكي تنهي كتابة سيناريو أحد أفلامها بعد طول تعثر. والشيء نفسه فعله الممثل سيلفستر ستالون لكي يتغلب على خجله كما يقول وليكتب سيناريو أفلام رامبو البالغة النجاح. كما تم تشجيع طلبة المدارس العصبيين والمتوترين على اللجوء إلى التنويم المغناطيسي قبيل دخولهم إلى قاعات الامتحان. وكان بطل الملاكمة المعروف، محمد علي كلاي، يلجأ إلى نوع من التنويم المغناطيسي الذاتي كإجراء نفساني قبل مبارياته. برغم أن السلطات البريطانية رفعت في عام 1988 الحظر الذي كانت قد فرضته قبل 36 عاما على التنويم المغناطيسي، فإن ملاحقة الشرطة للمنومين المغناطيسيين لم تتوقف لا في بريطانيا ولا في سواها من البلدان. ففي روما تعقب رجال الشرطة المنوم المغناطيسي جيوكاس كاسيلا وقبضوا عليه في أحد المستشفيات حيث كان يعالج من جرح أحدثه في عنقه بعد أحد العروض التلفزيونية التي بثتها شبكة التلفزيون الإيطالي الوطني. وكان قد غرس في عنقه سيخا معدنيا ليثبت للمشاهدين أنه لا يحس بالألم عندما يكون منوما. أما لماذا تعقبه رجال الشرطة، فلأن السلطات الطبية في باليرمو اشتكت من أن طفلا في الثامنة من عمره راح في غيبوبة بعد مشاهدة العرض التلفزيوني وشبك أصابع يديه معا في حالة اللاوعي بحيث تعذر فكاكها برغم أن الأطباء لجئوا إلى حقنه بعقاقير قوية. ولم يتمكن الطفل من إرخاء عضلات أصابعه وفكها إلا بعد العثور على المنوم المغناطيسي الذي خاطبه عبر الهاتف بقوله: واحد، اثنان، ثلاثة، يداك الآن حرتان. في اسكتلندا قال العالم النفساني الدكتور بريم بأنه عالج 16 مريضا كانوا يعانون من الاضطرابات بعد مشاهدتهم أحد عروض التنويم المغناطيسي على خشبة المسرح. أحد هؤلاء المرضى كان يسارع إلى خلع جميع ملابسه كلما سمع صفقة يد. كما أن امرأة مسنة كانت قد أعيدت إلى طفولتها فراحت تتذكر الأهوال التي مرت بها في أحد المعتقلات النازية بعد أن كانت نسيتها. وحالة ثالثة من هؤلاء تمثلت في زوجة أصيبت بالفصام الشيزوفرينيا بعد أن أوهمها المنوم المغناطيسي، على سبيل الهزل، بأن زوجها يخونها. يقول الدكتور ميسرا مفسرا تلك الحالات وأمثالها: هناك قوى عقلية قوية تستثار أثناء عمليات التنويم المغناطيسي، ويمكن أن تصبح خطيرة جدا، جدا. |
الأربعاء، 19 يناير 2011
أولئك الذين يتحكمون في أذهاننا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق