هذا الرجل مثل رجال آخرين. لا يعرف من أين يأتي هذه القدرات الهائلة على قراءة أفكار الناس. وعلى شفاء أمراض الناس. إنه لم يكن قديسا وإنما كان شريرا ذكيا. وقد اختلف عليه رجال الدين والسياسة وعلم النفس. ولكنهم اتفقوا على أنه ظاهرة عجيبة غريبة ولم يكن فريدا في هذا العالم، فأمثاله كثيرون بين الناس. ابن بطوطة الرحالة المغربي توفي منذ ستة قرون تماما. وفي طريقه إلى الشرق الأقصى توقف في مصر. وزار الكثير من بلادها. وكعادته يسجل كل ما يراه ولكنه لا يفسره وإنما يترك الأجيال القادمة. فعندما كان في أخميم بالصعيد قال له أحد الناس الصالحين: يا شيخ لا تحاول فإنك لن تنجح هذا العام. اندهش ابن بطوطة وحاول أن يحج في ذلك العام فلم يستطع. يروي أنه في مدينة دمياط سمع قصة رجل طيب اسمه الشيخ جمال الدين الساوي. كان هذا الرجل جميلا. وقد تعلقت به النساء. ولكن واحدة منهن كانت أشجع من الجميع. طلبت منه أن يقرأ لها خطابا. فوافق الشيخ. ثم طلبت منه أن يذهب إلى بيتها وأن يقرأ لها الخطاب في داخل البيت حتى تسمعه سيدة ثقيلة السمع. وذهب الشيخ جمال الدين. وأغلقت السيدة الأبواب. وهجمت عليه الخادمات وأمسكنه بالقوة. وطلبت إليه أن يدخل في فراشها. فوافق ثم سألها: وأين دورة المياه؟ فأشارت إلى دورة المياه. ودخل الشيخ وأخرج موسى وحلق شعره وشاربه ولحيته وحاجبيه. ولما رأته السيدة فزعت وطردته من البيت. في أحد الأيام ذهب الشيخ جمال الدين إلى المقابر فقابله أحد رجال الدين وسأله: هل أنت الشيخ؟ قال: أنا هو. سأله: هل أنت الرجل الذي حلق. قال: أنا الذي حلق رأسه ولحيته وشاربه وحاجبيه. فمن أنت؟ فأجاب: أنا أحد المعجبين بكذبك وخداعك للنساء. فصرخ الشيخ جمال الدين ورفع يده إلى الهواء. فعاد شعر رأسه ولحيته وشاربه وحاجبيه. ثم صرخ مرة أخرى فتغير لون شعر من أسود إلى أبيض. ثم صرخ مرة ثالثة فاختفى الشعر كله وعاد الشيخ جمال الدين حليقا تماما. وأقبل الناس على الشيخ جمال الدين يقبلون يديه. وأصبحت له طريقة. أي مذهب ديني. وأتباعه يحلقون شعورهم مثله. تمتما. هذه القصة رواها مؤرخ قديم اسمه أبو عبد الله بن عبد الرحمان الشنواني. يقول في كتابه الذي اسمه يرحمهم الله يقول: كان الشيخ جمال الدين الساوي جميل الصورة. وكانت النساء يمشين وراءه. ولكنه كان يضربهن بالطوب ويضربهن بالعصا. ويرفع يديه إلى السماء. فإذا النساء لا يرين الطريق. فيصرخن ويرفع يديه إلى السماء فيعود إليهن البصر. ومن شدة الفزع يعدن إلى بيوتهن. كيف كانت لهذا الرجل هذه القدرة العجيبة. إن رجلا آخر في روسيا كانت له هذه القدرة. ولكن هذا الرجل كان أسطورة ولا يزال. وكان شريرا. فلم يعف عن النساء. ولا النساء عنه. عاش رجل معجزات ومات رجل خرافات. ولكن من المؤكد أن لهيه قدرة خارقة على التأثير في الآخرين. في يوم أول جانفي سنة 1917 كانت درجة الحرارة عشرين تحت الصفر. شاهد الناس تحت الجليد شيئا غريبا. قطعة من القماش الأسود. فقفز إلى الجليد أحد الشبان. ومد يده إلى القماش الأسود يسحبه. ثم امتدت يده فوجد حبلا و سحبه. وظل يسحب الحبل والجليد يتكسر حتى وجد جثة كاملة لرجل ضخم. قتيل. أطلق عليه الرصاص ثم ألقي في الماء. ويبدو أن هذا الرجل كان قويا لدرجة أنه أفلح بعد أن أطلقوا عليه الرصاص وألقوا به في الماء أن يحرر إحدى يديه ولكنه تحت الجليد مات الرجل. بسرعة عرف الناس أن القتيل هو الراهب الرهيب. راسبوتين. كان راسبوتين يوم وفاته في السابعة والأربعين من عمره. فلاح بسيط. لم يكن يتوقع له أحد أن يكون شيئا. ولا حتى أن يكون راهبا. ولكنه مليء بالحيوية وقد أمضى عمره كله يشرب الخمر. ويستطعم النساء. أو يشرب النساء ويستطعم الخمر. وكان يرى أن لذة الدنيا هي أن يذوب الإنسان في كأس من زجاج أو من لحم ودم. كان يقول أيضا: أن أعظم الفواكه تخرج من أكثر الأرض سوادا. وأعظم ملذات الحياة تخرج من أكثر العلاقات شرا. ويوم جاءته سيدة تقول: فجأة أحببت رجلا ولا أعرف ماذا أصنع. إنه حمى أصابتني. إنه صداع لا يفارق رأسي. إنه دم يجري في دمي. إنه قبل يدق في قلبي إنه جنين في أحشائي. قال لها راسبوتين: إن الذي تشكين منه هو العلاج. أنت لست مريضة يا سيدتي. إن هذه الصحة يحسدك عليها أصحاب العضلات الذين لا يعرفون القلق والشوق والحنين والفناء في معنى والتفاني في أحد. فقالت له: وكيف أراه وأرى زوجي معا؟ قال: إن الذي يحب لا يرى ولا يحس إلا الذي يحبه. قالت: حاولت وتعذبت. فقال: إن حبا بغير عذاب فاكهة بغير بذور. طعام بغير نار. قالت: حاولت. قال: سيدتي. إن الذي تقولينه يجعلني أركع تحت قدميك. فأنت أستاذتي في كيف يصر الإنسان على أن يحب وعلى أن يتعذب ولكن أهم من ذلك كله. أن يحب دائما. لكن راسبوتين لم يكن هكذا فيلسوفا دائما. وإنما في أحيان كثيرة كان يخطف النساء ويستولي عليهن بالعشرات. هل هو الذي يذهب إليهن؟ هل هن اللاتي يجئن إليه؟ إننا نجد دائما عشرات من النساء عند قدميه.ذ هو في الثانية عشرة من عمره استطاع أن يجعل فلاحا يعترف بأنه سرق حصانا وأخفاه. ولم يفعل راسبوتين أكثر من أن ينظر إلى عيني اللص ويقول له: أنت سرقت فيقول اللص: نعم. أين أخفيت الحصان؟ في الغابة. هل تأتي به الآن؟ نعم. لا تسرق بعد ذلك؟ لا أفعل شيئا بعد اليوم. فوجئ أهل القرية بعد لحظات بالحصان قادما من الغابة وقد تدلى منه جثمان اللص. فقد انتحر عندما اقترب من القرية. دخل راسبوتين الدير. ثم هرب منه. وراح يتنقل بين القرى وعاد إلى الدير. وجعل من إحدى غرف بيته كنيسة. وأقبل الناس عليه فقد ظهرت له قدرات غريبة. كان يلمس المرضى فإذا بالمريض يشفى من مرضه. وتزاحم عليه الناس وتضايق منه رجال الدين فهرب من المدينة. وراح يتنقل من بلد إلى بلد تسبقه شهرته في علاج المرضى. في السابعة والثلاثين من عمره وجد نفسه وراء عرش القيصرية الروسية. ووجد نفسه الحاكم المطلق الذي يشير على الإمبراطورة. ماذا تأكل وماذا تشرب وماذا ترتدي. وكيف تبدو أمام الناس. وكانت الإمبراطورة سعيدة بذلك. وهو أكثر سعادة. في يوم قالت الإمبراطورة: لو أن زوجي عرف لون فستاني يوما واحدا لركعت أمامه ألف مرة في اليوم. ولكنه لا يراني إلا عارية. لا يكلمني. لا يسألني. إنني فراش ملقى فوق فراش. أما أنت فتراني وتسمعني وتلمسني وتزلزلني من داخلي. وأنا سعيدة بذلك. أما كيف دخل راسبوتين في حياة القيصر والقيصرة. فهذه هي بداية النهاية للجميع. فقد رزق القيصر بطفل. ولكن هذا الطفل كان مصابا بنوع من النزيف الوعائي قدمه تنزف ولا تجف. واستدعت الإمبراطورة ذلك الراهب الشهير راسبوتين. دون أن يرى الطفل قال للإمبراطورة: ليس خطيرا هذا المرض. اطمئني. ذهب راسبوتين إلى الطفل فق سقط وهو يلعب. ولمسه راسبوتين. فتوقف الدم. وفي غرفة الثالثة سقط طفل وهو يلعب وسالت دماؤه. ولكن راسبوتين كان بعيدا عن العاصمة. فأرسلت إليه الإمبراطورة برقية لتستعجل عودته. وأرسل إليها برقية يقول فيها: ليس خطيرا هذه المرة. ضعي هذه البرقية تحت رأسه. ووضعت البرقية تحت رأس الطفل، وجفت الدماء. وكان من الطبيعي أن يزداد عدد الحاقدين عليه. وأن يتآمروا فقد سلبهم الرجل كل شيء. فلم تعد الإمبراطورة ترى أحدا سواه. ولا تسمع لأحد غيره. واستطاعت الإمبراطورة أن تقنع الإمبراطور بأن هذا هو الرجل الذي يحمي الجميع. تشاء الصدف الغريبة أن ينطلق الرصاص على راسبويتن في نفس اللحظة التي انطلق فيها الرصاص على الأمير النمساوي فرانتس فردناند في سيراجيفو الذي كان موته سببا في قيام الحرب العلمية الأولى ـ أحد الأسباب طبعا ـ في نفس اللحظة مات راسبوتين. وكانت المؤامرة على حياة راسبوتين قد أحكمت تماما في نهاية سنة 1916. فقد استدرجوه إلى أحد مخازن الخمور. وهناك ضربوه بالحديد. ثم أطلقوا عليه الرصاص في ظهره. ثم ألقوا به في نهر نيفا. وعندما أخرجوا جثته، وجدوا في جيبه خطابا موجها إلى القيصر يقول فيه: إنني أتوقع أن أموت في نهاية هذا العام. فإن كان الذي قتلني هم جماعة من الفلاحين، فسوف يعيش عرشك بضع سنوات. أما إذا كان القتلة من النبلاء فلا عرش لك أو لأولادك من بعدك. كما توقع راسبوتين. فقد أعدم القيصر وجميع أفراد أسرته في بوليو سنة 1918. هذه ليست إلا واحدة من مئات النبوءات التي ملأت كتب التاريخ عن راسبوتين. ولم تهتم كتب التاريخ إلا بتلك النبوءات العاطفية لهذا الرجل العجيب. مثلا سألته إحدى الأميرات: هل تتوقع لزواجنا أن ينجح؟ قال: لابد أن يفشل. لماذا؟ لأنكما لا تحبان نفس الشيء. بل أنا أحب زوجي وهو يحبني. صحيح. ولكن الذي يحبه فيك ومنك ليس هو الذي تحبينه منه وفيه. إنه يحب جمالك. ولكنك تفضلين أن يحب حبك له. أن يحب حنانك عليه. وأنت تحبين طيبة قلبه. وهو كان يفضل أن تحبي رجولته. حيويته. قوته. فكلاكما غير راض. الحل. لا حل. سوف تستمر هذه العلاقة طويلا. كما استمرت ملايين العلاقات في هذه الدنيا. واستمرار علاقة لا يدل على نجاحها. ذكر هذه الواقعة الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار كدليل على قدرة هذا الرجل فقالت: إن الراهب نسى أنه في العلاقات العاطفية العنيفة لا علاج فالمرض هو الشفاء. والداء هو الدواء. وهذا هو الشرط الوحيد في دنيا العواطف. تقول سيمون دي بوفوار: وكما أن الشاعر الإيطالي دانتي قد وجد على باب جهنم كل أمل في النجاة، فكذلك الداخلون في عالم الحب. لا أمل في الشفاء. ولكن راسبوتين لم يتسع وقته كثيرا لكي يفكر في الداء والدواء. في المرض والشفاء. وإنما فقط كان يشير إلى النساء فيسقطن على الأرض. ويشير مرة أخرى فينهضن من الأرض. كان يقول لامرأة في الطريق: عودي إليه. إنه في انتظارك. فتعود السيدة فتجد زوجها الذي هجرها وهرب منذ شهور. ودون أن يعرف السيدة. كان يرى في الكنيسة عروسين في أول يوم زفاف لهما يقول: توأمان ولدان مبروك. وتلد المرأة بعد ذلك توأمين. أو يقول لواحدة. حزينة ممزقة. دموعك على خدك. لا أنت أول من أرغمه القلب. ولا أنت آخر من هزمها الحب. هذا قدرك. كما يولد إنسان بست أصابع. أو يولد طويلا أو يولد قصيرا. أو يولد أبيض أو يولد أسود. أو يولد مريضا أو يولد سليما. كذلك يولد عاشقا أو يولد شاعرا. أو يولد بليدا أو يولد حساسا مرهفا. هذا قدرك. فلا تفكري في الانتحار عيشي. عيشي. في إحدى المرات شاهد فرحا وكانت الفتيات يرقصن وتعرت ساق إحدى الفتيات ونهض واقفا: خسارة فادحة. فلما سألوه همس في أذن إحدى السيدات قائلا: أن يقطعوا هذا الساق الجميلة. ولم يمض شهر حتى اضطر الأطباء إلى قطع ساق الفتاة الجميلة. وغير ذلك كثير جدا. أما رجال السياسة فقد كان لهم رأي آخر في راسبوتين. فقد اتهموه بالرجعية واتهموه بأنه هو الذي أطال عمر القيصرية. وان الأسرة المالكة قد استخدمته لكي يشغل الناس عن الجوع والخراب في روسيا، التي ثارت بعد ذلك. لكن يبقى أمامنا أن هذا الرجل كانت ليده هذه القدرة الغريبة على أن يرى أبعد، ويسمع أعمق، ويلمس موطن الداء، وأن يجذب الناس حوله، ويسيطر عليهم وعليهن. لكن راسبوتين هذا لم يفكر في حقيقة الذي كان يحدث. لم يشرح لأحد أو حتى لنفسه، معنى هذه القدرة الخفية. أو دلالتها أو كيف يستطيع شفاء الناس. لكن رجلا آخر يوناني الأصل عاش في روسيا كان أقدرا على الفهم والشرح وكان ـعمق أثرا. هذا الرجل هو جورجيف والفرق بين الرجلين، كالفرق بين امرأة جميلة وأستاذ في علم الجمال. أو بين زهرة وأستاذ في علم الزهور. الأولى تلفت العين وتبهج القلب والثاني يسرح لنا. معنى الجمال وطعم الجمال. هذا الرجل جورجيف ولد في أرمينيا سنة 1873. وقد تأثر في طفولته برجل ساحر في قريته. وبهره الرجل وبهره السحر. ووجد نفسه مأخوذا بهذا الذي رآه. وامتلأت نفسه بالقلق. والقلق شيء نبيل عند المحبين والفنانين. إنه مثل بندول الساعة. يتحرك يمينا وشمالا. ورغم أن هذا البندول لا يتقدم، فإن العقارب وحدها هي التي تتقدم وهي التي تغير الزمن. ظل هذا الرجل جورجيف سائحا في البلاد عشرين عاما. كأنه يبحث عن شيء لا يجده. وهو في الحقيقة كان يبحث عن شيء في داخله. ثم وجده. فما الذي وجده؟ سمع جورجيف وهو يقول: أنت حي وأنا أيضا. ولكن ما معنى ذلك؟ معناه أننا نتحرك في مجال ضيق. ومعناه أننا نستخدم عقولنا استخداما تافها محدودا ومعناه أننا نشتغل قلوبنا في أمور تافهة. تماما كالذي يجلس على شاطئ النهر ثم يشرب في معلقة أطفال. أو كالذي ينام في الهواء الطلق ثم يغطي أنفه بورقة ويجعل الهواء ينفذ من ثقب ضيق. فما معنى هذا؟ معناه أننا نعيش كأننا مرضى. كأننا نيام. ولماذا لا نحطم قشرة الوعي. ولماذا لا ننسف الغطاء الكثيف على القلب؟ يجب هو عن هذه الأسئلة فيقول: يجب أن نلقي بأنفسنا في النهر. يجب أن نفتح صدورنا للهواء. يجب أن نعرض عقولنا للعلم. يجب أن نسلم قلوبنا للحب. قبل أن نمشي وراء جورجيف في إجابته عن هذه التساؤلات يجب أن أنبهك إلى النظر إلى حياتك أنت في أي يوم. أمسك قلما وورقة واكتب بالضبط ما الذي فعلته أمس. فسوف تجد أن حركاتك محدودة. والأفكار التي خطرت لك قليلة والانفعالات التي هزتك تافهة. تماما كالذي أحرق بيتا كاملا ليشعل من هذه النيران سيجارته. كل هذه النيران من أجل سيجارة. كل هذه الحيوية كل هذه القوة من أجل أن تنزل من بيتك لتمشي في شارع لا ترى معالمه. ثم تركب الأتوبيس واحدا ضمن مائة وتلقي بنفسك إلى الشارع واحدا ضمن ألف، ثم تذهب إلى مكتبك واحدا ضمن عشرة مللت وجوههم وأصواتهم والحياة معهم. ثم تمضي نهارك في نفس الملل، لتعود إلى بيتك أسوأ مما نزلت. وتسقط ورقة من النتيجة أمامك بما يدل على أن يوما من عمرك قد انتهى. وسوف تمضي بقية الأيام. تماما كالذي يضع في جيبه ألف جنيه. ثم ينزل ليشتري علبة كبريت. إنه ليس في حاجة إلى كل هذا المبلغ. ولكنه في نفس الوقت لم يستفد من كل هذا المبلغ. وحياتك الحقيقية هكذا. هناك كنز تحت جلدك. وهناك ينابيع. مناجم. ولكن الذي تستخدمه منها هو هذا الشيء التافه البليد الكسول. لكن يكفي أن نتذكر أنه حدثت لك مواقف صعبة أو مشاكل معقدة. ثم استطعت أن تتغلب عليها ببراعة. ومن الطبيعي أن يقول الواحد منا لنفسه بعد ذلك: لم أكن أتصور أنني أملك هذه المقدرة. أو هذه الطاقة أو هذا الذكاء. هذه العبارة صحيحة لأن الإنسان لا يدري مقدرته هذه، إلا في المواقف الصعبة. عندما يشعر أنه كل مهدد. وأنه في حاجة إلى استدعاء قواته الاحتياطية التي ذهبت إلى نجدته. إلى إنقاذه إلى تأكيد قدرته. أنشأ جورجيف معهدا في باريس. هدف هذا المعهد هو تنسيق القوى الداخلية أو الانسجام المعنوي للإنسان. أما هذا التنسيق فهو أن يتدرب الناس على ذلك طويلا. فيجلس الواحد هادئا. ويغمض عينيه ويصمت ويركز انتباهه إلى أعماقه. إلى أي معنى. أي شيء. أية صورة. يقول جورجيف: لا تزال حالات الحب هي أسمى هذه الحالات جميعا. اسأل المحبين كيف يركز الواحد منهم تفكيره في الآخر. وكيف أن معظمهم يستطيع أن يعرف بالضبط ما الذي يفعله الآخر. أو في نيته أن يفعل. وكيف أن واحدة من تلميذاته كانت تقف أمام فساتينها وتمد يدها إلى الواحد بعد الآخر. وفجأة تعود فتختار واحدا بالذات وتقول: هذا بالضبط ما يريد. إنه يحب أن يراني فيه. ويكره أن أغير هذا الفستان الأحمر. ثم إنها التقت بحبيبها وسألته وقدر ارتدت فستانا آخر. هل تحب هذا فيقول: بل كنت أفضل الفستان الأحمر. وأحب أن أراك دائما فيه. لأنني أتخيلك دائما هكذا. وأراك في نومي هكذا. يقول جورجيف: هذا بالضبط هو الطريق إلى تحريك القوى الكامنة في الإنسان. عن طريق التركيز والاستمرار والتعود على ذلك. وأهم من ذلك كله عن طريق الصدق. ويقول: لو عرف الناس ما الذي استطاع أن يحققه الحب للبشرية لجعلوه طعامهم وشرابهم وكساءهم ودينهم. إن الذي تهدمه الكراهية، يبنيه الحب. إن الذي تهدمه المصانع، تشيده المعابد. إن الذي يفسده الفلاسفة يصلحه الشعراء. أحد تلامذة جورجيف هذا كان فيلسوفا أديبا ولذلك كان أقدر على التعبير واسمه بيتر أوسبنسكي. وقد روى كيف كان أستاذه قادرا على أن يعرف بالضبط ما الذي يجري في داخل التلميذ. وكان التلميذ يقول كنت أسمع صوته في أعماقي. في صدري يقول لي: لا تفعل ذلك. أو افعل ذلك. ولا أعرف كيف كنت أحس به يملأ كياني. كان تلاميذة جورجيف هذا يتبارون في قراءة الأفكار عن بعد. أو في قراءة الخطابات الموجودة في جيوب الزوار أو بعضهم البعض بمجرد أن يلمسوها من الخارج. ولما توفي جورجيف في باريس 1949، لم يترك وراءه ورقة مكتوبة. وإنما ترك لتلامذته أن يكتبوا ماذا قال لهم، وماذا فعل بهم وبغيرهم من الناس. كان أوسبنسكي هذا من أعظم تلامذته. وأقدرهم على الكتابة الجميلة. وهو يروي قصته عندما بلغ الأربعين من عمره. يقول: فجأة هبت عاصفة. وفجأة أضاءت الدنيا. وفي مهب العاصفة وقعت كأنني شجرة. ولم أسقط. وفي الضوء الباهر اكتشفت أن شيئا قد ضرب قلبي فانفتح. ورأيت الفتاة التي أحببتها حتى الموت واتخذت قرارا عنيفا أنني أنا الذي أحببتها وأنه قدري. وأنني لن أبوح بهذا الحب ولكني أدين لها بكل القصائد التي كتبتها وطلبت أن تنشرها بعد وفاتي. لا خوفا عليها. فلا خوف عليها. ولا تشويها لسمعتها. ولكن إمعانا في تعذيبي لنفسي. فعلى ضوء النار في أحشائي كتبت. وعلى وهج الوجدان في قلبي سجلت اعترافاتي. لما جاء القسيس على فراش الموت. طلب إليه أن يعترف. فسأله إن كان الاعتراف ضروريا. وهز القسيس رأسه بأنه ضروري. فقال للقسيس أحببت. فسأله القسيس: من؟ قال: ف. ف. فلانة. لم يعرف أوسبنسكي هذا أن فلانة هذه قد ماتت على فراشها في نفس هذه اللحظة. مع أنه لم تكن بينهما صلة. الحب عادي في حياة الإنسان. ولكن الذي ليس عاديا في هذه القضية أن أوسبنسكي هذا كان يستطيع أن يروي ما الذي فعلته محبوبته في أي يوم منذ تنهض من النوم وهي تلقي نظرة علة زوجها الممدد إلى جوارها غارقا في النوم، وغارقا في عدم الشعور بها حتى تعود إلى الفراش في الليل لتغرق مرة أخرى في بخار كثيف من السجائر والخمر. قد روت لنا ذلك المرأة الوحيدة التي باح لها بكل شيء. زوجته. إحدى تلميذاته واسمها ديون فورشن كانت لديها قدرة عجيبة على أن ترى هالات النور حول النباتات. وترى قطرات الدم تنزف من أوراق الشجر عن=دما نمزقها. سوف أتعرض لذلك بالتفصيل فيما بعد. وسوف أشرح أحدث النظريات العالمية المعاصرة التي تؤكد أن للنباتات إحساسا وشعورا ولغة. كانت لديها قدرة غريبة على الإحساس بالأماكن. فإذا دخلت غرفة تقول: كان هنا قبل حضوري أربعة أشخاص رجلان وسيدتان. ثلاثة منهم يدخنون. والرابع مريض بالقلب. أو تقول: على هذا السرير نام ثلاثة في الليلة الماضية. وتشاجروا جميعا. ويسألونها: كيف؟ تقول: إنهم ثلاثة من الإخوة لم يروا بعضهم البعض منذ وقت طويل. ناموا متجاورين أول الليل. وفي آخر الليل تركوا الغرفة وناموا خارج البيت. يكون ذلك صحيحا. وفي آخر أيامها انهارت وهي على فراشها تقول: أنا مثل بطارية استخدمت حتى استهلكت فخمدت تماما في فترة قصيرة. ومن الحوادث العجيبة في حياتها أنها اختفت مع زميلة لها في معهد جورجيف. فدارت بينهما معركة غريبة. لاحظت ديون فورشن هذه أن عددا كبيرا من القطط يتجمع دائما عند باب بيتها. لدرجة أنها لم تستطع أن تخرج من البيت لأي سبب. وعندما كانت تحاول أن تخرج من النافذة تنتقل القطط في انتظارها. وعندما حاولت أن تمشي من سطح بيتها إلى بيت آخر كانت القطط في انتظارها. أما كيف حدث ذلك، فهو أن زميلة أخرى قد تسلطت على القطط ودفعتها إلى التربص والهجوم كلما انفتح باب أو شباك. فما كان على ديون فورشن هذه إلى أن عكفت في بيتها على التركيز والتفكير والتأمل حتى تسلطت هي الأخرى على القطط النائمة على باب وعند النوافذ ودفعتها إلى السيدة الأخرى. ولم تشهد ديون فورشن هذه ما أصاب زميلتها. ولكن حدث في يومين متتالين أن نشرت الصحف وفاة الزميلتين في معهد جورجيف. والحقيقة أنهما توفيتا في ساعة واحدة وفي يوم واحد. واختفت القطط. يروي المؤرخ العظيم ابن خلدون أنه قال: هناك بعض الناس لا يقربهم الذباب. ومن الملاحظات العجيبة أن نجد خمسة من الناس يأكلون. ويقترب الذباب من كل الأطباق إلا طبقا واحدا. ويقال: أن بعض الناس عنده هذه القدرة الشخصية على طرد الحشرات عنه. دون أن يبذل مجهودا في ذلك. قال ابن خلدون: كنت في طفولتي أحب الكلاب. وأنفق عليها طعامي ومالي. وكنت إذا ذهبت إلى أحد البيوت فإن الكلاب تترك كل من في البيت ثم ترقد عند قدمي. ويتعجب الناس ولكني أعلم ذلك واعلم أن الكلاب تحبني. أو أن حبي لهذه الكلاب هو الذي يجعلها تتجه ناحيتي. ولكن كيف تشعر هذه الكلاب بأنني أحبها. وكيف ينتقل شعوري هذا إليها؟ أما المعنى الذي توقف عنده ابن خلدون فهو أن هناك بعض الناس لديهم هذه القدرة الصغيرة أو الهائلة على التأثير في الحيوانات فتقبل عليهم، أو تتربص بهم. والذي لم يعرفه ابن خلدون أن لبعض الناس هذه القدرة الهائلة في التأثير على النباتات والزهور. وأنه أمكن تسجيل ذلك علميا. كما سوف نرى. |
الخميس، 20 يناير 2011
التأثير في الآخرين
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
انا معجب با هذةالقصة كله من الراهب راسبوستين
ردحذفوالقوة القفية انا حسي بقوة في داخلي واريد مساعد علي اكتشافه الكامل وشكر جزيرا لكم