الخميس، 20 يناير 2011

كم تدفع لي إذا ابتلعت نصف هذه العربة

إن هؤلاء الذين لديهم هذه القدرة على التأثير في الآخرين يريدون السيطرة. يريدون أن يزدادوا قوة. ولا تزال القوة والسيطرة على الآخرين هدفا جوهريا عند الإنسان. فلا يوجد من لا يريد أن يكون أقوى. أو أن يستفيد من قوته في الكسب الأدبي والمادي والجنسي. حتى الحيوانات الأخرى.

من المناظر التي تحير علماء الحيوان عندما يذهبون إلى جبلاية القرود. أنهم يجدون شيئا غريبا. يجدون القرد الأٌقوى يعتلي القرد الأضعف من الذكور والإناث. بل إنهم يجدون أن القردة الأنثى الأقوى تعتلي القرود الأضعف من الذكور والإناث معا. أما تفسير ذلك. فإنه مظهر من مظاهر القوة أن تعتلي غيرها. وأن يستسلم لها الغير. لا لشيء إلا لأنها أقوى، وإلا لأن الآخرين أو الأخريات أضعف جسميا.

قد ضن بعض العلماء أن ظاهرة القرود لها معنى واحد هو الشراهة الجنسية. ولكن هذا التفسير ليس صحيحا. وإنما الصحيح أنها وفرة قوة أو قوة بالغة. والذي يحدث في عالم الحيوان، يحدث أيضا في عالم الإنسان. فهذا الاعتلاء أو العلو أو التعالي. كلها بمعنى واحد. أن واحدا أقوى من الآخرين. وكما أن من الناس من يريدون القوة بالغريزة، فهناك من يستسلمون لذلك بالغريزة أيضا.

من مظاهر هذه القوة أن بعض الناس عندهم القدرة على فرض أفكارهم على الآخرين. فإذا فرضوها تسلطوا بها على غيرهم. والذين لديهم موهبة نقل الأفكار ودفعها إلى رؤوس الآخرين، يريدون السيطرة على الغير دون أن يكون هناك هدف آخر.

من المألوف في الريف في أية دولة في العالم أن تسمع أهل الريف يقولون: إن أحدا لا يستطيع أن ينظر في عيني فلان. لأنه لو نظر في عينيه فسوف يستسلم مباشرة. وإن واحدا لا يستطيع أن يرفع عينيه عن الأرض، في حضور فلان من الناس. ومن مظاهر الضعف أن يركز الإنسان عينيه في الأرض. ولا يرفعها إلى وجه فلان أو يلتقي بعينيه.

المعنى هو أن فلان هذا إذا نظر في عيني أحد فإنه يستسلم ولكن هناك أناسا أقوى من ذلك. إنهم ينقلون أفكارهم إلى الآخرين. ويتسلطون بها على الآخرين، فإذا هم يتحكمون فيهم.و ويوجهوهم على النحو الذي يريدون.

أذكر أنني رأيت في معهد الرازي بالقرب من مدينة طهران عددا هائلا من الأفاعي والعقارب والعناكب السامة. قد وضعت كلها في حظائر من الزجاج الشفاف السميك، لكي يتفرج عليها الناس من بعيد. وقد اصطحبني أحد من العلماء لرؤية أحد الثعابين الحبارة. وقال لي أن هذا الثعبان يطلق السم من فمه فيصيب عيني الفريسة. ولا يخطئ أبدا. فإذا أصاب عينيها أصبحت عاجزة عن الرؤية. وبسرعة يتقدم لها ويفترسها. ومن المستحيل أن يخطئ.

وطلب مني أن أتشجع وأن أدخل في تجربة مروعة. قال لي: قف وراء اللوح الزجاجي. واقترب بوجهك. وألصق خدك بحيث تكون إحدى عينيك في مواجهة الثعبان وانتظر. وفجأة انطلقت من فم الثعبان قذيفة من السم لا تزيد عن رأس الدبوس. وكانت بالضبط فوق عيني تماما. وقال لي العالم الذي رافقني: إن هذا السم مركز جدا لدرجة أنه يصيب الحيوان بالعمى وفي نفس الوقت يصيبه بالدوخة والهذيان.

في الكثير من الأحيان يحتاج هذا الثعبان إلى إطلاق قذيفة السم هذه. وإنما يكتفي بالنظر إلى عيني الحيوان. فإذا التقت عينا الثعبان بعيني الحيوان فإنه يستسلم ويسقط على الأرض كأنه ميت تماما. وهذا الذي تفعله الأفعى ليس إلا أمرا غير مسموع وغير مكتوب من الأفعى إلى الحيوان، هذا نصه أنت ضحيتي، ولا تحاول أن تقاوم. وإذا قاومت فسوف تموت، فأنت ميت لا محالة.

يفعل الأسد نفس الشيء إذا نظر إل الضحية. وكذلك النمر. فما الذي في عيون بعض الوحوش إذا انتقل إلى عيون الضحايا استسلمت؟ ما الذي يقال بلغة الحيوانات، فإذا الضحايا جثث على الأرض بلا حركة؟

أناس قليلون عنهم هذه القدرة أيضا في السيطرة على الناس والتحكم فيهم وتحريكهم على النحو الذي يريدون.

قيل الكثير عن نابليون. وقيل أكثر من ذلك عن هتلر. ومن العجيب جدا أن هتلر كان ضعيف النظر. ولكن أحدا لم يعرف ذلك إلا فيما بعد. وكان هذا البريق العجيب في عينيه ليس قوة في النظر، وإنما تدقيق في النظر لعله يرى. ومات هتلر والناس مختلفون في لون عينيه. هل هي زرقاء، هل هي خضراء، هل هي رمادية، هل تتغير من لون إلى لون.

إن إيفا براون التي تزوجها في مخبأ تحت برلين أثناء الغارات كانت تقول لمن حولها: إنني أحار فيه. فلا أعرف لعينيه لونا. فقط أعرف لونها عندما ينام على صدري. وكان هتلر إذا نظر إلى أحد من الناس، فإنه لا يستطيع أن يقاومه. لا يستطيع أن يناقشه فما هذا الذي في عيني هتلر؟ أو ما هذه القوة الخفية في هتلر نفسه؟

كانت لديه هذه القدرة العجيبة على أن يبث أفكاره ويدخلها في رءوس الآخرين. سواء كان هؤلاء عشرة أو عشرة ملايين.

كانت الرحلات إلى الغابات والجزر النائية نجد وصفا مفصلا لرجال صناعتهم السحر. وهؤلاء السحرة كانوا يفضون خلافات الناس عن طريق الإتيان بأطراف النزاع. فيلتقي الساحر بهم واحدا وحدا. ويطلب الساحر إلى كل من الأطراف النزاع أن ينظر إلى عينيه فقط. وأن يردد بعض العبارات. وفجأة يخرج أطراف النزاع متعانقين. وتدق الطبول وتتساقط الذبائح ابتهاجا بعودة السلام بين القبائل. 

الذي فعله الساحر القديم هو الذي يفعله اليوم هذا الرجل الذي نسميه المنوم المغناطيسي أي ذلك الرجل يأمر واحدا من الناس أن ينام فإذا هو ينام. ثم يضع في رأسه عن طريق الإيحاء عددا من الأفكار، أو يمحو عددا من الأفكار أكثر ويتحقق له ذلك.

بل إن ساحر القبيلة الذي يسمونه الشامان باللهجة الأفريقية البدائية كان يفعل أكثر من ذلك. وهو بالضبط ما نفعله في الريف المصري. فساحر القبيلة الأفريقية أو الجزر النائية في المحيط الهادي إذا سمع عن إنسان أنه مريض. قال : هاتوا المريض. ويأتون بالمريض.ولا يزال يضع العود المشتعل في أماكن مختلفة من تمثال الطين. ثم يقرأ بعض الكلمات ويطلق البخور. وبعد ذلك يقول لأهل المريض: إنه شفى الآن. ويكون المريض قد شفى بالفعل.

في الريف المصري نأتي بورقة ونجعلها على شكل إنسان. ونأتي بإبرة ونقوم بوخز الورقة ونقول: من عين أمه وأبيه، ومن عيون الذين رأوه ولم يصلوا على النبي. ومن شر حاسد إذا حسد. ومن شر النفاثات في العقد. ونحن نفعل ذلك في الريف دفعا للحسد عن أي إنسان، أو إبطالا لمفعول الحسد.

المعنى هو أن بعض السحرة البدائيين يسلطون أفكارهم على شيء. وهذا الشيء ينقل أفكارهم  وقوتها وسطوتها إلى الإنسان الذي يرمز له. ويتم الشفاء. بل إن مؤلفي كتب الرحلات إلى جزر هاواي يروون هذه القصة التي تتكرر على مدار السنة.

فعندنا يذهب أهل الجزيرة لصيد السمك، فإنهم لا يجدون السمك بالوفرة التي يتمنونها. وهنا يجب أن يذهبوا إلى ساحر القبيلة. والذي يفعله ساحر القبيلة هو قريب الشبه بما تفعله السيدات في الريف المصري للوقاية من الحسد. إنه يأتي بقطعة من الطين. ويصنعها على شكل سمكة. ثم ينفرد بها ويصلي لها ويصلي عليها، ويطلق البخور والطبول والدعوات. وفي هذه الأثناء يذهب الصيادون إلى شاطئ المحيط. وهناك يجدون السمك قد اقترب من الشاطئ صيدا سهلا للجميع. كيف حدث ذلك؟ كيف نقل الرجل أفكاره إلى الأسماك أن تجئ وأن تكون ضحية. وأن تموت في شباك الصيادين.

إن هناك أناسا لديهم هذه القدرة على نقل أفكارهم إلى الناس وإلى الحيوانات تماما كما أشرنا في الفصل السابق إلى الذي يفعله مروضو الوحوش مع الوحوش نفسها. وما تفعله السيدات مع الورود. أي كيف ينقل بعض الناس أفكارهم ورغباتهم وأوامرهم إلى الحيوانات والنباتات. 

بعض علماء الاجتماع يفسرون أن بعض القبائل البدائية قد حرمت الأوثان. أي حرمت صناعة التماثيل وفي نفس الوقت حرمت عبادتها لماذا؟

خوفا من أن يصنع أحد السحرة تمثالا لوحد آخر، ويظل يتحكم فيه عن طريق التأثير على هذا التمثال.

بعض القبائل البدائية تخاف من الصور أي من الكاميرات ومن الوقوف أمامها. لماذا؟ لأن أهل هذه القبائل يؤمنون بأن الذي يملك صورة أو يملك تمثالا لأي واحد من الناس، فإنه يملك السيطرة عليه والتحكم فيه.

انشر هذا المعنى عندنا بشكل آخر ـ في الشرق الأوسط ـ فهناك بيننا من تخاف من الأثر. أي أن تقع في يد أي إنسان قطعة من قماش ترتديه. أو منديل أو فستان أو بنطلون أو حذاء. لأن وقوع شيء ما كنا نملكه أو نستخدمه سوف يكون وسيلة إلى الإضرار بنا.

هناك تعبير التقطه علماء الاجتماع عندما درسوا الحياة في جزيرة اسمها جزيرة جلبرت. فقد وجدوا أن ساحر القبيلة ينصح المواطنين بقوله: من التقطوا له صورة فقد التقطوا روحه أيضا. أي خطفوا روحه.

في الكتب المقدسة: القرآن والتوراة نجد قصصا كثيرة عن أولياء الله الصالحين، وعن الأنبياء الذين أوتوا قدرة خارقة على فعل شيء غير مألوف. فموسى عليه السلام أمسك عصاه فإذا هي حية تسعى. كما قال لنا القرآن الكريم. ثم إذا هذه الحية تأكل الأفاعي التي أطلقها السحرة المصريون. ثم إذا موسى عليه السلام يمسك الحية فإذا هي عصا في يده. ثم إن موسى كان يضع يده في جيبه فإذا هي تضيء. ثم يخرجها فإذا هي يد عادية.

التوراة تحدثنا أن أحد الأنبياء طلب إلى السحرة أن يشعلوا النار في شيء من بعيد، فلم يفلحوا. فأشار إلى الحطب أن يشتعل، فاشتعل دون أن يلمسه. ثم أن هذا النبي طلب إلى الناس أن يقتلوا الكهنة الذين خدعوهم، فقتلوهم.

وإذا نظرنا إلى السحرة في كل العصور فإننا نجدهم أولاـ يريدون السيطرة على الآخرين. وعن طريق ذلك يكون لهم وضع ممتاز بين الناس.

ثانياـ يقاوم بعضهم البعض. وأيهم يتفرق على الآخرين فإنه يتخلص منهم.

ثالثاـ هؤلاء السحرة لا يكسبون ماديا من وراء ذلك كله. وقد عاش السحرة جميعا فقراء وماتوا فقراء أيضا.

من أشهر السحرة في كل العصور رجل جاء اسمه في سفر ( أعمال الرسل ) واسمه سيمون ماجوس، عاش في القرن الأول الميلادي. وكان هذا الرجل في خلاف عنيف مع القديس بطرس. وتقول الكتب المقدسة أن القديس بطرس قد انتصر عليه. ولا أحد يعرف مدى الصحة في ذلك. فيقال أن سيمون ماجوس قد أطلق الكلاب الوحشية على القديس بطرس. فواجهها القديس برغيف في يده، فتبددت الكلاب وتبخرت في شكل سحب. أما سيمون هذا سقط على الأرض مغشيا عليه. ويقال مات متأثر بجراحه.

لا أحد يعرف مدى صحة هذا الدفاع عن عظمة القديس بطرس، وأكاذيب الساحر ماجوس. ولبكن من المعروف تاريخيا أن سيمون هذا كانت لديه القدرة على إخفاء نفسه عن العيون. يجلس بين الناس ثم لا يجدونه. ولكن كيف استطاع ذلك.

يقال إنه كان يسحر الموجودين معه. أو بعبارة حديثة كان ينوم الجالسين معه. ويوحي إليهم أنه اختفى، فلا يجدونه.

ويروي أيضا، وعلى مشهد من مائة شخص، أن الإمبراطور نيرون قد استدعاه.

وحكم الإمبراطور بقطع رقبة سيمون. وجاء رجل وأمسك السيف ونزل به على رأس سيمون. فطار رأسه فعلا. ولكن عندما سقط على الأرض وجدوه رأس خروف. أما سيمون نفسه فقد وجدوه جالسا تحت مقعد الإمبراطور نيرون. والشهود على ذلك مائة.

اختاره الإمبراطور ساحرا للبلاط الإمبراطوري، مكافأة له وخوفا منه. وكان يطلب إليه عرض هذه اللعبة أو هذه الحيلة كلما زاره وفود من دول أخرى.

فما الذي حدث بالضبط؟ وما تفسيره؟ هل كان سيمون يوهم الإمبراطور والذين معه بأنه لن يموت. وأن الذي سوف يموت هو الخروف. هل استطاع أن يوهم الجلاد بأن تحريك يده بعيدا عن رأس سيمون. فلا يسقط رأس سيمون. وإنما شيء آخر. وهذا الشيء الآخر هو رأس خروف؟

هل سيمون الرجل الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق الذي أقنع صراف البنك بأن الشيك الأبيض مكتوب عليه مائة ألف روبل. فأعطاه هذا المبلغ دون أن تكون هناك كلمة واحدة على الشيك المقدم إليه؟ الشيء المؤكد أن سيمون كانت لديه القدرة على إقناع الآخرين بما يريد هو.

يقول لنا الشاعر الإنجليزي العظيم بيتس أحد شعراء القرن التاسع عشر: أنه كان عضوا في جمعية اسمها الفجر الذهبي. وأن بعض أعضاء الجمعية كانت لديهم القدرة أن يمشي فوق سطح الأرض. أي يمشي على مدى نصف متر من سطح الأرض. ومن الغريب أنه كان يحرك ساقيه، كأنه يمشي فوق طبقة أخرى غير مرئية فوق سطح الأرض. ويروي أيضا أن أحد أعضاء هذه الجمعية قال له مرة: سوف أجعل نفسي كبشا. ونظر إلى قطعان الأغنام الني حولنا.

وفجأة اتجهت كل قطعان الأغنام إلى السير وراء هذا الرجل. يقول الشاعر بيتس : إني نظرت إلى صاحبي هذا فوجدته كما هو. إنسانا بملابسه وملامحه. وكنا نتحدث معا في السفر. ولكن الأغنام كانت تمشي وراءه بسرعة. وكان يوقفها فتدور حوله. ثم يغير اتجاهه فتفعل نفس الشيء.

إنه يستطيع أن يوهم أو يؤثر في كل هذه الأغنام أنه كبش كبير. كيف؟

أما الأديب السويدي أوجست استراندبرج فكانت لديه قدرة عجيبة في التأثير على الناس. ومن مظاهر هذه القوة أنه كان يستطيع أن يجعل أي إنسان يجلس معه. يقوم ويقعد ويخرج ويعود دون أن يدري كيف يفعل ذلك.

يقول استراندبريج: كنت أجلس في أحد المطاعم. وكنت غرقا في التفكير. واقترب مني أحد الأصدقاء. ونظرت إليه، فإذا هو يعود إلى مكانه. وسألت هذا الصديق بعد ذلك: لماذا عدت إلى مكانك؟

قال: نظرت إليك فوجدتك رجلا كبيرا نحيفا تمسك سكينا في يدك فخفت. وأدركت أنك لست الشخص الذي أريد، وأنني أخطأت. ولذلك عدت إلى مكاني. كيف؟

قد اشتغل الكاتب السويدي استرندبرج في السحر الأسود. أي في الاتصال بالأرواح الشريرة واستخدامها في السيطرة على الآخرين. ويقال أنه مات ضحية لها. أو هو انتحر بسببها. أو أن هذه الأرواح الشريرة هي التي قتلته.

لقد كان استرندبرج في خلاف مع زوجته. وكان من الصعب أن يزور أولاده. منعوه من ذلك. ولكنه كان يلجأ إلى حيلة، هي أن يوحي لأولاده بأنهم مرضى، ويجعلهم يصرخون طوال الليل يطلبون رؤية أبيهم. وبذلك يجد الفرصة لرؤيتهم.

اعترف الأديب استرندبرج أن مشكلتي  الحقيقية هي أنني حسود. وأنني لا أحسد إلا نفسي وإلا ما يخصني. فأنا أحسد أولادي فيصابون بالمرض. ,احسد نفسي أيضا. وأعتقد سوف أقتل نفسي بمجرد النظر إلى وجهي في المرآة.

وهذا ما حدث. فقد وجدوه ميتا والمرأة على صدره فقد ظل ينظر إلى نفسه في المرآة حتى تكسرت المرآة. وحتى تحطمت الصورة التي كان يراها أمام عينيه. ثم تحطم هو نفسه.

في سنة 1936 وقعت أشهر جريمة في أوروبا،ولم تكن هذه الجريمة مشهورة لأن رجلا ألمانيا يدعي صناعة الطب قد اغتصب إحدى مريضاته. فقد حدث ذلك كثيرا. ولكن لأن الطبيب أوهم المريضة أنه طبيب. وأنه قادر على علاجها. ولأنه استطاع أن يتسلط عليها تماما. كانت تطارده دون أن تدري من مدينة إلى مدينة. ثم أنه أقنعها بأن تشتغل في الدعارة وأن تعطيه ما تكسبه من مال. وأكثر من ذلك أنه فرض عليها زوجا. وطلب إليه أن تستمر في الدعارة وأن تعطيه ما تكسبه.

كان ذلك في ألمانيا. وكان هناك رجلا يعمل في التنويم المغناطيسي اسمه فرانتس فالتر. كان مسافرا بالقطار. ووجد أمامه فتاة جميلة. دار بينهما حوار. فعرف أنها مريضة. وأخبرها بأنه طبيب. وأنه قادر على شفائها وأنه متخصص في علاج مثل أمراضها. واقتنعت الفتاة واستطاع أن يشفيها.

لكنه قد تسلط عليها تماما. وكان يطلب إليها أن تأتي إليه في الوقت والمكان الذين يحددهما. وراحت تجري ورائه من مدينة إلى مدينة. والفتاة من عائلة محافظة متدينة جدا. ولكنه أقنعها بأن تعمل في الدعارة وأن تتزوج. ولكن زوجها تنبه إلى هذه العلاقة الشاذة بين زوجته وبين هذا الطبيب. فأبلغ البوليس. وأمسكوا الطبيب المزعوم ولاعترف.

حوكم واستمع الناس في ألمانيا وأوروبا إلى أغرب جرائم العصر. وتدخل رجل آخر يشتغل بالتنويم المغناطيسي. وراح يؤثر عللا زوجة ويطرد الأفكار القديمة من رأسها، حتى تحللت من الساحر القديم. وحكمت المحكمة على الطبيب المزعوم بالسجن عشر سنوات. وأقفلت قصة جريمة. ولكن العلماء استأنفوا البحث في كيفية تسلط إنسان على إنسان.

في العصر الحديث عرفنا ما يسمى بالتنويم المغناطيسي. أي إقناع إنسان بأن ينام بمجرد الإيحاء بذلك. أو مجرد النظر في عينيه. أو بأن نجعله يتابع شيئا معلقا في السقف يتحرك ذهابا وإيابا. فإذا به ينام.

قد لوحظ أن هناك أناسا عندهم هذه القدرة على أن يجعلوا واحدا ينام، والقدرة على أن يناموا بمجرد أن يطلب واحدا إلي هم ذلك. وليس من الضروري أن يتواجه الاثنان، أو أن يكونا في مكان واحد. فقد استطاع كثيرون أن يجعلوا شخصا ينام إذا كان في غرفة مجاورة.

قد يقال أن هناك تأثيرا كهربائيا يخرج من شخص إلى شخص. ولكن علماء من الأمريكان والروس قد استطاعوا أن يجعلوا واحدا ينام، على الرغم من وجوده في غرفة مبطنة بالرصاص الذي لا تنفذ منه الكهرباء أو المغناطيسية، وأكثر من ذلك. فإن المكان لا يهم. بل من الممكن أن يوحي الواحد منهم إلى شخص آخر يبعد عنه ألف كيلو متر أن ينام فينام.

هناك تجربة مشهورة جدا قام بها أحد العلماء الروس. فقد كان هذا العالم اسمه فاسيليف، وهو لا يؤمن بالروح ولا بالله ولا بالدين ولا بالقيامة. لا يؤمن إلا بكل ما هو ملموس محسوس. هذا الرجل شاهد تجربة بنفسه وكتب عنها وسجل حيرته، فقد أتوا له بأحد المنومين المغناطيسيين وجعلوه في مدينة سبستبول وجعلوا الآخر في مدينة ليننجراد. والمسافة ألف ميل. ثم جعلوه يرى الاثنين على شاشة التلفزيون. ورأى المنوم المغناطيسي يجلس إلى ترابيزة وقد ركز عينيه في صورة الرجل الآخر. وطلب إليه أن ينام الآن. وإذا بالرجل هناك بعيدا يتراخى ويتساقط وينهار نائما على الفراش.

ثم عاد المنوم المغناطيسي يوقظه بنفس الطريقة. بأن يطلب إليه أن يصحو. فإذا بالرجل يصحو. وحتى لا يكون هناك شك. فإن المنوم المغناطيسي طلب من العالم السوفيتي فاسيليف أن يختار هو الوقت والمكان للإيحاء بالنوم. وأن يختار الوقت الذي يراه لإيقاظ الرجل الآخر. إذا لا المكان يؤثر ولا المسافة ولا الزمان.

فنحن أمام شخص أو أشخاص لديهم هذه القدرة الهائلة على التأثير في الآخرين أيا كانت المسافة بينهم.

من أشهر الذين عملوا في السحر رجل اسمه فاوست أو الدكتور فاوست أو الدكتور فاوستوس. هذا الرجل ظل أسطورة أوروبا كلها أكثر من خمسة قرون. وقد اختاره عدد من الأدباء الكبار موضوعا لأروع أعمالهم الأدبية.

فالشاعر الإنجليزي مارلو كتب عنه سنة 16047 مسرحية فاوست. وأمير الشعراء الألماني  جيتيه كتب عنه مسرحية فاوست سنة 1808. والروائي توماس مآن كتب عنه دكتور فاوستوس سنة 1947. وظهرت أعمال موسيقية كبيرة تحمل اسم فاوست هذا.

أسطورة فاوست تبدأ بأن مؤلفا ألمانيا أصدر كتابا سنة 1587 م بعنوان تاريخ فاوست. المؤلف الألماني اسمه يوهان أشبيس. وفي هذا الكتاب راح يروي عجائب هذا الرجل القادر على أشياء كثيرة مذهلة. فقال إنه ساحر. وقال إنه قادر على التنويم المغناطيسي. وإن كان المؤلف الألماني أشبيس هذا لم يستخدم كلمة التنويم لأنها كلمة ظهرت بعد ذلك بمئات السنين على أقلام الكتاب الأوروبين.

مما يقوله هذا المؤلف الألماني عن فاوستوس هذا. أنه في إحدى المرات ذهب إلى رجل يهودي يقترض منه. وطلب منه رهنا. فما كان من فاوست إلا أن قطع ساقه وأعطاه له. وانزعج اليهودي وخاف فألقى بالساق في النهر. وبعدها بيوم عاد فاوست يطلب ساقه واضطر اليهودي أن يدفع تعويضا كبيرا. وبعد أن حصل فاوست على التعويض نظر إليه اليهودي فوجده يمشي على ساقيه.

يروي المؤلف اشبيس أيضا أن فاوست كان يمشي في الحقول فصادف عربة تحمل أعشابا. فاستوقف صاحب العربة وقال: كم تدفع لكي آكل نصف هذه الأعشاب.

فقال له الرجل: أي مبلغ تطلبه.

وأكل نصف الأعشاب. وقال له الرجل: أدفع لك أي مبلغ حتى لا تأكل النصف الباقي.

قال المؤلف الألماني أن فاوست هذا كان رجلا عالما وباحثا في الكيمياء. وهو يتكلم لغات كثيرة من بينها اللغة العربية التي قرأ بها كتب السحر العربية والهندية القديمة. وقال إنه حصل على الدكتوراه في الشريعة وفي الطب أيضا.

قال إنه أراد أن يكون ساحرا، ولذلك اشتغل بالسحر الأسود. وبعد أن استغرقته دراسة السحر امتلأ حقدا ومرارة وشرا. ومن مظاهر الشر عند فاوست تعطشه إلى السيطرة على الناس وإيذائهم.

دخل السجن. وفي داخل السجن قد حير رجال الأمن. فأحيانا كانوا يجدونه في غرفته. وأحيانا يجدون أناسا آخرين معه. ويجدون حيوانات وطعاما وفاكهة. وكان يداعب رجال الشرطة بأن يمر بأصابعه على لحاهم فإذا الشعر يتساقط. وكذلك يفعل برءوسهم بمجرد أن ينفخ على رءوسهم.

في القرن السادس عشر في أوروبا كان يكفي أن يقال عن إنسان إنه يأتي أعمالا غريبة لكي يقتلوه أو يغرقوه أو يحرقوه. فقد كانت الدول كلها تطارد الذين يعملون بالسحر الأسود. لقد استطاع عدد قليل من الناس أن يخيفوا أوروبا كلها. هذا الخوف هو الذي جعل الدول تتكاثف من أجل القضاء عليه.

فالناس قد اعتادوا على نوع من الحياة والأفكار والقواعد والمبادئ. قد استراحوا إلى ذلك. حتى ظهر أناس يشككونهم في هذا كله. وهذا التشكي قد أرهبهم. وقد أفسد عليهم الهدوء والأمان.

لكن أحدا من الناس أو من العلماء في ذلك الوقت لم ينتهز هذه الفرصة ليسأل: صحيح أنهم يأتون أعمالا غريبة. وقد رأيناها. وتأكدنا منها. ولكن كيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟

أي أنه على الرغم من الغرابة ومن الخوف، فإن الأمر يقتضي أن نفكر وأن نسأل وأن نبحث. علنا نهتدي إلى شيء. أو لعلنا نستفيد من ذلك في فهم الإنسان. أو في تعميق المعرفة الإنسانية.

لكن هذه التساؤلات قد ظهرت أخيرا، وإن كان الخوف ما يزال قائما. وبقيت المشكلة حية منتعشة كما هي. ما هذا الذي في داخل بعض الناس؟ ولابد أنه في داخل كل الناس، ولكننا لا نعرف ومن الواجب أن نعرف. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق