الأربعاء، 19 يناير 2011

كان ينظر إلى السماء في طبق أبيض فيرى عالما أوضح وأجمل

يقول ابن خلدون عن هذه العلوم: إنها علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثير في عالم العناصر. وهي عبارة صحيحة تماما لولا أنها في حاجة إلى شرح.

فعبارة ابن خلدون معناها أن هذا العلم يهتم بالقوى الخاصة الموجودة في النفس البشرية. وعن طريق هذه القوى تستطيع ـن تؤثر في الأشياء المادية. ويقول ابن خلدون أيضا في كتابه المعروف باسم ( المقدمة ) في وصف أنواع السحرة: والنفوس الساحرة على مراتب الثلاث.

أولها. المؤثرة بالهمة فقط، من غير آلة أو معين. وهذا ما يسميه الفلاسفة بالسحر.

الثانية. بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد ويسمونه الطلاسم. وهو أضعف رتبة من الأول.

الثالثة. تأثير في القوى المتخيلة، يعتمد هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويليق فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة وصورا مما يقصده من ذلك. ثم ينزلها إلى الحس من الرئتين بقوة نفسه المؤثرة. فينظر الراءون فيها كأنها في الخارج وليس هناك شيء. كما يحكي عن بعضهم أنه يرى البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك. ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.

هي جميعا عبارات دقيقة وصحيحة وتدل على عظمة ابن خلدون في فهمه للعلوم في زمانه. لولا أن هذه العبارات جميعها في حاجة إلى شرح.

معنى ما يقول ابن خلدون: أن السحر والقدرة السحرية عند الناس لها ثلاث درجات.

الأولى. هي أن الساحر يستطيع أن يؤثر في الآخرين بإرادته. أي بقدرته هو دون أن يستعين بالملائكة أو الشياطين.

الثانية. أن الساحر يستعين بالكواكب وما لها من تأثير على الناس. أو يستعين على التأثير في الناس مستخدما المواد كالنباتات أو الأزهار أو المعادن أو يستعين بالخواص السحرية للأرقام ـ لأن الأرقام لها دلالة ومعنى عند السحرة ـ وسوف أعرض لذلك فيما بعد.

الثالثة. أن هؤلاء الناس الذين يملكون تلك القدرات الخفية يستطيعون أن يوحوا إلى الناس بأشياء لا وجود لها. وذلك بإيهامهم أنهم في حديقة أو في بحر أو يأكلون أو يشربون، والحقيقة أنهم لا يفعلون ذلك. وإنما استطاع هؤلاء الناس أن يؤثروا فيهم وأن يؤثروا عليهم حتى يتصوروا ما يريدونه هم.

الفلاسفة والناس العقلاء يرون أن هذا نوع من النصب والكذب عليهم. ومهما كان رأي الناس العقلاء في هذا الذي يحدث، سواء وجدوا له سببا أو لم يجدوا، فالمشكلة التي أمامنا أن هذا كله يحدث أما ألوف الناس. ومن بينهم عدد من كبار العلماء. أي أننا أمام شيء غريب يحدث، ولسنا نجد له تفسيرا علميا حديثا.

إن الزكام يحدث كل يوم. ولكن لا يوجد تفسير طبي واحد مقبول للإصابة بالزكام أو لانتقاله.

إن الحساسية تصيب الملايين، ونراها ولكن لا وجود أي تفسير طبي لماذا يصاب     الإنسان بالحساسية؟

إذا كنا لا نجد له اليوم تفسيرا، فهذا لا يدل على أنه بلا تفسير، أو بلا معنى. وإنما هو شيء يقنع، ونحن ننتظر من العقل أو الوجدان أن يجد تفسيرا مقبولا.

إن الملايين يصابون بالروماتزم، ولا يوجد تفسير طبي واحد مقنع أو نهائي للإصابة بأوجاع الروماتزم، إن بعض الأطباء يرون أن الروماتزم مرض عصبي. وبعضهم يرون أنه مرض نفسي. وبعضهم يرى أنه حساسية.

فإذا عدنا إلى أسباب الحساسية لم نجد لها سببا. ومعنى ذلك أن الروماتزم أحد أسبابه الحساسية التي لا نعرف ما هي. ولا كيف هي؟ ولماذا تصيب واحدا من الناس دون واحد آخر؟

كذلك هذه القدرات الغريبة. كيف تظهر عند الناس وكيف يمكن التحكم بها في الآخرين، نراها ونندهش لها. ويبقى بعد ذلك أننا لا نعرف ما هي؟

ابن خلدون قد تحدث عن القدرات الخارقة عند الأنبياء والأولياء. ووصفها بأن هذا الطراز الفريد من الناس يدركون ما ندرك ويرون ما لا نرى بمدد إلهي. أي بمساعدة من الله. أي بقدرة من الله تضاعف قدراتهم. ومعنى ذلك أننا لا نعرف بالضبط كيف يستطيع الأنبياء والأولياء أو القديسون أن يحققوا مثل هذه المعجزات. فالله وحده أعلم، ووحده أقدر، وهو الذي يعطيهم وحدهم دون غيرهم من الناس. هذا الفيض أو هذا المدد القوي من القدرات الهائلة.

أهم ما يميز هذا الطراز من الناس أن لديهم القدرة النفسية على التأثير في الأشياء المادية وفي الناس دون أن يلمسوا شيئا واحدا. أي عندهم هذه القدرة على تحريك الأشياء والناس من بعيد.

حدث في سنة 1860 أن ذهب أحد المحامين الفرنسيين إلى الهند. المحامي اسمه لوي جاكيو. وجاء في كتابه الذي وصف فيه الحياة في الهند وتعاليم الديانة البوذية. أنه رأى رجلا هنديا يأتي بأعواد سبعة ويغرسها في الأرض. ثم يأتي بسبع ورقات شجر ويغرسها في هذه الأعواد. ثم يرفع يديه أعلى هذه الأعواد فإذا هي ترتفع عن الأرض. ويشير إليها أن تنزل فإذا هي تهبط أيضا.

لم يصدق المحامي الفرنسي هذا الذي رآه. فكان يضع يده بين يدي الساحر وهذه الأعواد ثم يضع يديه تحت الأعواد بعد أن ارتفعت عن الأرض، فلا يجد شيئا. وطلب من الرجل الهندي يعيد هذه التجربة. فأعادها عشرين مرة. ولم يتغير شيء من حركة الأعواد السبعة وارتفاعها عن الأرض بإشارة من هذا الساحر الهندي. ولما وجد الساحر الهندي أن الرجل الفرنسي لم يصدقه. أو يبدو ذلك ارتفع الساحر الهندي عن الأرض. ومد الرجل الفرنسي يديه في هذه المسافة التي بين الساحر والأرض، فلم يجد شيئا.

ثم طلب الساحر الهندي من المحامي الفرنسي أن يتذكر اسم أي إنسان، ويكتب الحرف الأول من اسمه على الورق. وكتب المحامي الفرنسي الحرف الأول من اسم صديق له مات. وأطوى الورقة. ثم فتحها فوجد اسم صديقه الذي توفي منذ سنوات. وإلى جانب الاسم تاريخ الوفاة والمكان والاسم كاملا.  

رأى المحامي الفرنسي، وهو رجل لا يؤمن بالمسيحية ولا بأي دين، ساحرا آخر. هذا الساحر أمسك بعض البذور ووضعها في كومة من التراب. ثم غطاها بقماش، وبعد لحظات من الصمت أو ما يشبه الإغماء، مد الساحر يديه ورفع القماش فوجد البذور تحولت إلى نباتات يانعة. رفع القماش مرة أخرى ثم كومه في يديه. ثم فتح قطعة القماش فسقطت منها زهرة عند قدمي المحامي الفرنسي.   

رأى ساحرا ثالثا أطلق سحابة من فمه. وظلت هذه السحابة تتكاثف وتلمع حتى خرجت منها يد تصافح المحامي. ثم تختفي اليد والسحابة  والساحر معا.

كتب المحامي جاكيو في كتابه رأيت هذه الأحداث الغريبة والعجيبة. وأنا أعتقد أن هؤلاء الهنود يستخدمون العفاريت في أن تحقق لهم مثل هذه الحيل. ومعنى ذلك أن المؤلف جاكيو قد رأى ذلك بوضوح. ولكنه لم يجد له تفسيرا علميا أو منطقيا. واستراح في تفسيره إلى أن الهنود يستعينون بقوى خفية. هذه القوى الخفية لها وجود خارج الجسم الإنساني.

رأى المحامي جاكيو رجلا هنديا يلقي بحبل في الهواء. فإذا الحبل يظل واقفا مشدودا دون أن يرى أحد من الذي أمسكه وجعله مشدودا هكذا. ثم يأتي طفل ويصعد هذا الحبل. ولا يزال يصعد ويصعد حتى يختفي عن العيون تماما ثم يختفي

الحبل أيضا. كأن أحدا يسحبه من فوق. وفجأة يسقط الحبل ومن ورائه الطفل على الأرض جثة هامدة. ويأتي الساحر الهندي بقطعة من القماش يغطي بها الطفل. وبعد لحظات يتلو الساحر كلمات غير مفهومة، ويصاب بما يشبه الإغماء. يتحرك الطفل تحت القماش. وينهض وفي يده الحبل كأن شيئا لم يحدث.

يقول جاكيو في كتابه: رأيت ذلك أكثر من مرة. وحاولت أن أفهم من الرجل معنى الذي رأيت. ولكنه هز رأسه بما معناه، لا أعرف. وأن الأشياء تجرى أحداثها هكذا. ويقول كذلك: لابد أنها العفاريت تساعد هؤلاء الناس على ذلك.

معنى كلام جاكيو أنه لم يجد تفسيرا عقليا أو منطقيا لهذا الذي رآه.

في الكتب الهندية القديمة مئات من الحوادث المشابهة. وخاصة في كتاب ( القيدا ). و ( الأوبانيشاد ) و ( باجاهاد جيتا ). وهذه الكتب الهندية القديمة تتحدث عن القوى الروحية الخفية عند عدد كبير من الناس.

الهنود كانوا أول الناس في فهم هذه القدرات الخفية. ولذلك كانوا أول الناس في الدعوة إلى البحث عنها والتنقيب تحت جلودنا. أي أن هذه القوى الخفية موجودة فينا. ولكننا يجب أن ألا نقف عند هذا الحد. وإنما نتعمق تحت جلودنا. تماما كما نحفر الأرض ونتعمق فيها بحثا عن ينابيع الماء أو البترول أو كنوز الذهب. أو عن اللؤلؤ في أعماق الماء.

فهذه القوى الخفية موجودة تحت. تحت هذه الإحساسات التافهة التي نشعر بها كل يوم. إنها في أعمق من مجرد اشتهاء الطعام أو الجنس أو المال أو السلطة. ولذلك لكي نحصل عليها يجب أن ندرب النفس على أن تتجاهل هذه المشاعر. وأن تذهب إلى ما تحتها.

من هنا كانت اليوجا. فاليوجا ليست تدريبا على تحكم الإنسان في جسمه. أي تحكم العقل في الشهوات، أو الرغبات اليومية العابرة. واليوجا هب علم التأمل. من أجل أن يصبح الإنسان قادرا على سيادة نفسه، أو السيطرة على حواسه وعواطفه. فإذا استطاع الإنسان ذلك كان قريبا جدا من ينابيع قواه الخفية.

من مبادئ اليوجا ضبط التنفس العميق. والتنفس هو النفس. والنفس هي الحياة. ومطلوب من الذين يمارسون اليوجا، التركيز الشديد. التركيز العقلي على شيء. فإذا أفلحنا في أن نركز تفكيرنا أو عقلنا، أصبحنا قادرين على النفاذ إلى ما وراء الأشياء.

تماما كما نمسك عدسة صغيرة ونضعها تحت أشعة الشمس. فإن العدسة تركز أشعة الشمس وتجعلها حارقة. وفي الريف عندنا يشعلون سجائرهم عن طريق هذه العدسات. فيضعون العدسة بين الشمس وبين السيجارة. فتخرج الأشعة مركزة فتحرق سجائرنا. وكذلك هذا التركيز العقلي يقوي النفس ويجعلها نافذة. أي تنفذ إلى ما وراء الأشياء. إلى ما وراء الإحساسات اليومية العادية.

من أقوال اليوجا أن النفس الإنسانية مثل مستنقع كبير وممارسة اليوجا تنقي مياه المستنقع وتجعله شفافا. تجعلنا نرى ما تحته بوضوح. وأهم من ذلك أن سطح المستنقع يصبح مرآة نرى فيها قرص الشمس. ومعنى ذلك في عبارة أخرى. أنه مطلوب من الذين يريدون أن يتعمقوا في قواهم أن يقوموا بتنقيتها من الشوائب. والشوائب والرواسب هي مشاعرنا ليومية. فإذا أفلحنا في تصفية هذه النفس أو هذا المستنقع، كنا قادرين على أن نرى أعمق وأوسع، وأن تكون الرؤية واضحة جدا كأنها في ضوء النهار. بدلا من أن تكون في ضوء النجوم أو في الظلام.

أو بعبارة أبسط. أن النفس الإنسانية كزجاج النافذة تغطى بالتراب والضباب. والتأمل يمسح عن الزجاج هذه القذرات، فإذا صفا الزجاج رأينا عن طريقه ومن ورائه عالما أوضح وأروع.

غير اليوجا هناك طريقة ( زن ) اليابانية. وزن هي الصيغة اليابانية لليوجا الهندية. وأساس مذهب زن أن يصبح الإنسان قادرا على نوع من التكامل بين الجسم والنفس.

يروي الأستاذ هيلجوت أستاذ الطبيعيات بجامعة برلين أنه ذهب إلى اليابان ليرى رهبان زن فوجد أن الواحد منهم يمسك القوس والسهم. وفي ثانية واحدة يطلق القوس فيصيب الهدف البعيد على الحائط. بمنتهى السهولة. حاول أم يفعل ذلك فوجد صعوبة شديدة في شد القوس. ووجد استحالة في إصابة الهدف على الحائط على مدى عشرة أمتار.

لما سأل قيل له: إن طريقة زن تحتاج إلى رياضة طويلة في تنسيق العمل اليدوي والقدرة العقلية معا. فإذا استطاع الإنسان أن ينسق الحركة اليدوية والقدرة على التركيز والإصابةـ فإن ذلك سوف يتم مستقبلا بمجهود قليل. وبعد سنة من ممارسة زن استطاع الأستاذ الألماني أن يطلق السهم وأن يصيب الهدف دون مجهود يدوي أو عقلي.

أما أنا فقد وجدت في مدينة كولمبو سنة 1959 ميلادية جماعة من الرهبان يمشون حفاة على النار، أما النار فهي عبارة عن مساحة من الفحم الملتهب تبلغ أربعة أمتار. مساحتها أربعة أمتار وعمقها متران ودرجة الحرارة تصل إلى 500 مئوية. وكان الترمومتر أمامنا يؤكد ذلك. ونحن واقفون لا نستطيع أن نقترب من هذه النار. ثم جاء الرهبان وعرضوا أقدامهم علينا. وجاء طبيب سويسري وفحص أقدامهم. وبشرتهم وسيقانهم. كل شيء عادي جدا. ولا يختلفون عنا في شيء. وجاء هؤلاء الرهبان ومعهم راهب سويدي وساروا على النار حفاة. وببطء. وعندما انتهوا من هذه الخطوات المحرقة. سارع الطبيب السويسري ليكشف عن بطون أقدامهم. فلم يجد أثرا للنار. كيف يقاومون النار؟ كيف- لا تؤثر فيهم النار؟

كيف يتحكمون في إحساساتهم. كيف لا يحرقون. كأنه من الممكن أن يؤثر الإنسان بقدراته الخفية بتغير طبيعة الأشياء أو منطق الأشياء. أما منطق الأشياء فهو، أن كل يدخل النار ترتفع درجة حرارته أو يحترق. كيف منعوا الأشياء من أن تكون طبيعية؟

هناك نظرية جديدة تقول: أن كل ما يشعر الإنسان بأنه يعلمه، هذا الشعور يفسد قدرته على إنجاز هذا الشيء بصورة رائعة. هذه العبارة تحتاج إلى شرح، فنحن عندما نطلب من إنسان أن يتعلم ركوب البسكليت فإننا نقول له: أنظر أمامك، لا تنظر إلى قدميك. أي يجب ألا تشعر بأنك تتعلم وأنك تحرك قدميك. فإذا انصرفت عن النظر إلى قدميك فسوف تتعلم بسهولة.

هذا يفسر لنا أيضا أن الواحد منا عندما يرتدي ثوبا جديدا، ويشعر أن الثوب جديد، وأن الناس تنظر إليه فإنه يرتبك في خطواته. والإنسان عندما يواجه الناس ويتحدث ويشعر أنه يواجهه الناس. وأنه يريد أن يقول أحسن الكلام. هذا الشعور نفسه يجعله يرتبك.

لذلك فإن أهم تعاليم( اليوجا) و( زن ) هو ألا أشعر بما تفعله. وإنما أن تستغرق في تأملك أو في أعمالك، حتى لا تدري مما حولك شيئا، هذا التركيز الذي يؤدي إلى الاستغراق، يشبه أشعة الشمس التي تركزها العدسات. هذا وحده هو الذي يجعلك قادرا على النجاح في أي شيء.       

هذه القدرة على الاستغراق موجودة عند نوعين من الناس. الأطفال والعباقرة. فالطفل عندما يلعب فإن أتفه الأشياء تستغرقه وتستولي عليه. وكذلك العباقرة يستغرقهم التفكير كأن الدنيا خلت حولهم من كل شيء ومن كل الناس.

حرص العلماء والرهبان على العزلة والاعتزال. سبب ذلك رغبتهم في الاستغراق أو ضرورة الاستغراق لاستخدام كل قدراتهم في عمل شيء.

هناك مذهب جديد اسمه ( ت. م ) أي ( تأمع متعال ) أو التأمل المتعالي. هذا التأمل المتعالي هو نوع من الاستغراق الذاتي، أي استغراق الإنسان في نفسه. هذا التأمل المتعالي من أجل إطلاق قوانا الخفية.

فقد ظهر في الهند رجل فيلسوف اسمه ( راما كرشنا ) وكان ذلك في القرن التاسع عشر. وفلسفته سهلة جدا. هو يقول أن حياتنا العادية مليئة بالأشياء التافهة. وهذه الأشياء تشغل تماما عن فهم الحقيقة. وعن الشعور بالمعاني النبيلة, وهذه الحياة اليومية مملة. ولابد أن يكون العمل عظيما.

ويضرب لذلك مثلا. لنفرض أن رجلا يملك فيلا. وهذا الفيل قادر على أن يحمل الأشياء الثقيلة جدا. ولكن صاحب الفيل يضع على ظهره أو على خرطومه بعض الصفيح الفارغ. أو علب الكبريت. ثم يتحرك بالفيل ذهابا وإيابا عشرين مرة في اليوم الواحد. فما الذي نراه أمامنا؟

إننا نرى رجلا يستخدم قوة هائلة ويرهقها في أعمال تافهة. وكذلك نفعل نفس الشيء بعقولنا ووجداننا. نستخدمها في أمور يومية تافهة. يقول راما كرشنا أيضا: إنني أعرف رجلا ضعيف البنية. ويعرفه الكثيرون في الهند أيضا، إنه يجر وراءه على الأرض كميات من الخشب أضعاف ما يستطيعه فيل قوي. فكيف حدث ذلك؟

الجواب أن هذا الرجل قد درب نفسه على العمل الشاق. وأطلق قواه الخفية التي لا حدود لها. فإذا هو قوي كالفيل. وإذا الفيل نفسه ضعيف كهذا الرجل الضعيف الهزيل.

 كان من تلامذة راما كرشنا هذا رجل يأتي بالسيف ويطعه فوق بطنه. ثم يأتي طفل يقف على السيف دون أن يقع به السيف، دون أن يتمزق بطن الرجل. كيف ذلك؟

لقد أمكن ذلك كثيرا. ولكن بعد رياضيات نفسية عنيفة. فالوقوف على السيف كالمشي على النار، فلا السيف يمزق بطن الرجل، ولا النار تحرق أقدام الرهبان.

بعض الصوفية كانوا يمشون على الماء أيضا، دون أن يبلل الماء أقدامهم. ودون أن يغوص بهم الماء أيضا. والمتصوفون المسلمون قد أتوا بالعجب. ولكن كأشياء في حياتنا العقلية والوجدانية. فإننا لم نسجلها ولم ننشرها بين الناس. ولا عندنا صور أو تماثيل لرجال مثل الحلاج وجلال الدين الرومي البسطامي وابن الفراض ومئات غيرهم. ولكن الأعمال الخارقة التي أتوا بها لم تلق ما تستحقه من الدراسة العلمية. وإنما دخلت التاريخ على أنها أعمال خارقة غير مفهومة.

لا مانع من أن توصف بأنها خارقة. لأن هذا صحيح. ولكن أن يقال أنها غير مفهومة، ثم تقف عن ذلك، هذا هو الخطأ. وإنما الصحيح أن نقول أنها غير مفهومة، وهي لذلك في حاجة إلى فهم . وهذا ما حدث في أوروبا وأمريكا.

في القرن الخامس قبل الميلاد قال لنا الفيلسوف العظيم أفلاطون في كتاب له اسمه ( المأدبة ): نحن عندما نحب شخصا فإننا نتجه أولا إلى جسمه أو ملامحه الجميلة. ونتعلق بها. وبعد ذلك نرتقي إلى مرحلة أسمى من ذلك فنحب صفاته الجميلة. أي نحب روحه. وبعد ذلك نرتفع إلى مرحلة أسمى وأعظم هي أن نحب الجمال في كل شيء. جمال المرأة والزهرة والسماء والبحر. أن نحن الجمال عموما. والجمال عموما هو الله.    

يقول فيلسوف آخر اسمه أفلوطين هذا المعنى كله في عبارة مركزة هي: أننا في الحب نبدأ بالواحد ونتجه إلى الواحد الأحد. وهذا بالضبط ما يحدث عندما ننتقل بأحاسيسنا ومشاعرنا إلى أعمق أعمالنا. فنحن ننصرف عن الأشياء الصغيرة إلى المعاني الكبيرة. ثم إلى أكبر المعاني. ونثق في صميم الدين والإيمان بقوة مطلقة هي الله. ومن القوة المطلقة نستمد قوانا الخفية غير العادية.

شيء آخر هام. هو أن هؤلاء الذين تتحقق عندهم هذه القدرات يكنون في حالة أقرب إلى النوم. أو إلى التجلي. وهذه صفة نجدها عند الأنبياء وعند الأولياء الله الصالحين. فنجد الواحد منهم في حالة نوم لكي يصبح بعدها في حالة يقظة باهرة. أو في حالة النوم الذي يسبق اليقظة.

كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يصاب بما يشبه الحمى عند نزول الوحي. أي عندما تتصل روحه بروح أقوى. هي روح جبريل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقطر وجهه عرقا. هذه هي حالة التلقي. أي حالة التي تتدفق في جسمه المحدود قوى أو فيض نوراني من قوى هائلة.

بعض الأنبياء والأولياء والقديسين يعنون درجات مختلفة من هذه الحالة التي تجيء بعدها اليقظة الباهرة.  واليقظة الباهرة تعبير صوفي معناه أن الإنسان يكون نائما، أو كما لو كان نائما ثم يضع عينه على عالم مضيء مشرق مريح يراه لأول مرة. تماما كما تتبدد السحب مرة واحدة وتشرق الشمس فتملأ الدنيا، وتكشف الدنيا لنا.

لا يختلف ما يقوله الصوفيون المسلمون عن الذي يقوله الصوفيون في أي دين آخر. مثلا، الصوفي الألماني يعقوب بيمه الذي عاش في القرن السابع عشر كان صانعا للأحذية. ولكنه لمس  في نفسه رغبة في أن يفعل شيئا غريبا كيف اهتدى إلى ذلك؟ هو نفسه لا يجد سببا معقولا وواضحا.

أما الذي كان يعلمه فهو أن يأتي بطبق أبيض. ويضعه أمامه بالساعات يحملق فيه. وفجأة يتسع هذا الطبق وكأنه السماء. أو كأنه طاقة كبيرة في جدار ولا تزال هذه الطاقة تتسع وتتسع حتى يرى من ورائها عالما ساطعا واضحا جميلا. لم يره من قبل.

أغرب من ذلك كان يستطيع وهو يحملق في الطبق ساعات أن يرى الناس في المدينة يروحون ويجيئون. وكان يقابلهم ويقول لهم: أنت سافرت وأنت عدت. وأنت تشاجرت. وأنت سكرت. وأنت سرقت. وأنت خنت زوجتك. كان الناس يؤكدون أن هذا الذي قاله صحيح.

بعد ذلك انتقل الصوفي الألماني بيمه إلى حالة أخرى. فهو عندما كان يمشي في الغابات كان يرى شيء شفافا. فالأشجار لا تحجب ما وراءها بل إنه كان يرى العصارة في أغصان الأشجار. وكان يرى الطعام في بطون الناس. ويرى ما في جيوب الناس.

سجل الصوفي بيمه كل الذي رآه هذا في كتاب وثار عليه رجال الدين. واتهموه بالسحر والاتصال بالشياطين. ولكن الرجل كان طيبا. وكانت النظرة إلى وجهه تقول: أن هذا الوجه لا يكذب. وكانت وفاته غامضة.

تأثر به الشاعر الإنجليزي وليم بليك. فجاءت قصائده ولوحاته أيضا غامضة ساحرة. أو فيها الكثير من الصوفية وفي إحدى قصائد بليك تقرأ أبياتا معناها

مشيت في الطريق

وكانت كل الدنيا عيونا تنظر

وكل الأوراق ألسنة تقول

وكل النجوم دعوات أن أصلي

ولم أعرف ما الذي أفعله أولا

وكل ما استطعت أن أعمله،هو

أن ألقي بنفسي على الأشياء

زورقا تلهو به وتلعب

ويقول:

هل أنا الذي اكتشفت هذه الدنيا

هل هي التي كشفتني واكتشفتني

إنني قادر على أن أحرك كل الذي حولي

لماذا؟ لا أعرف لماذا؟

في سنة 1603 م ولد رجل طيب في إيطاليا اسمه جيسي ديزا. ودخل الدير. ولكن الرهبان لاحظوا عليه أشياء غريبة من بينها، أنه قليل الكلام، قليل الطعام. ومن بينها أيضا أنه كثير العزلة. وفي أحد الأيام وجدوا هذا الرجل طائرا في داخل الكنيسة. وظل يرتفع حتى وقف بقدميه فوق الشموع وكانت الشموع تحت قدميه مباشرة. فلا انطفأت الشموع ولا أحرقت قدميه.

رأى ذلك أعظم فلاسفة أوروبا في ذلك الوقت الفيلسوف الألماني لينتس، وهو رجل لا يؤمن إلا بالعلم وإلا بالمنطق وهو الذي اكتشف حساب التفاضل والتكامل. يقول لينتس: طبيعي ألا أصدق شيئا من ذلك حتى رأيت الرجل يرتفع تدريجيا في الهواء أمامنا. ثم هبط تدريجيا. رأيت ذلك عشرين مرة. ولم أفهم سر هذه القدرة العجيبة. بعد وفاة هذا الراهب نصبته الكنيسة قديسا باسم القديس يوسف الكوبرتينو.

في سنة 1688 م ولد في السويد رجل اسمه إيمانويل سويدنبرج. وأصبح الرجل مهندسا وموسيقيا ومدرسا للرياضيات. وأصدر عددا من الكتب تكلم فيها عن رحلاته إلى الكواكب الأخرى. ووصف هذه الرحلات لا على أنها خيال، ولكن على أنها حدثت له أثناء النوم. أو في حالة تشبه النوم. ولم يتقبل الناس شيئا من ذلك.

لكن ما كان يفعله أمام عيون الناس هو الذي جعلهم يصدقونه. ففي إحدى المرات كان يتناول طعامه. في حفلة عامة. وفجأة سقط الكوب من يده، وسألوه ماذا؟

قال: حريق شب بالقرب من بيتي. حريق هائل.

ثم عاد وقد أشرق وجهه بالفرحة وقال: الحمد لله ابتعدت النار عن بيتي. لقد أخمدوها.

كان بيته بعيدا عن المكان الذي يتناول فيه طعامه بحوالي 500 كيلو متر. ثم كتب وصفا كاملا شاملا لما حدث. وبعد أيام جاءت التقارير تؤكد كل ما قاله هذا الرجل.

في إحدى مآدب ملك السويد طلبت الملكة إلى الرجل أن يحمل رسالة إلى أخيها الذي توفي من سنة. فقال الرجل سويدنبرج: عندما أراه سوف أخبره برغبتك.

في اليوم التالي لقي الملكة فقال لها: إنه لم يتمكن من الرد على رسالتك الأخيرة. لأن الموت قد نقله إلى العالم الآخر. وأما مضمون رسالتك إليه فهو كذا وكذا.

لم يكن أحد يعرف غيرها ما الذي جاء في رسالتها إلى أخيها قبل أن يموت بيوم واحد.

طلبت إليه زوجة السفير الهولندي أن يحل لها مشكلتها. أما مشكلتها فهي أن تاجر مجوهرات جاء يطلب منها ثمن المجوهرات. وقالت له زوجة السفير: أن زوجها قد دفع ثمنها قبل أن يموت. وأكد بائع المجوهرات أنه لم يشأ أن يدفع ثمنها. وإلا فلتقدم له الفاتورة التي تسلمها الزوج قبل الوفاة. وفي اليوم التالي جاءها سويدنبرج يقول لها: إن زوجك قد دفع الثمن. والفاتورة موجودة في أحد أدراج مكتبه. وردت زوجة السفير بأنها فتشت في كل مكان. وفي هذه الأدراج بالذات.

في اليوم التالي جاءها الرجل يقول: سألت زوجك مرة أخرى. فقال أن هناك درجا سريا، وفي هذا الدرج توجد الفاتورة. ووجدتها الزوجة في المكان الذي حدده الرجل.

في سنة 1818 م انشغلت أوروبا برجل اسمه فياني كان يضع يده في الأطباق الخالية فتمتلئ بالطعام. وكان هذا الرجل راهبا قديسا. وقد شكت قريته من الجوع فكان يصلي طول الليل. وفي الصباح يقف أهل القرية أمام مخازن الغلال الخاوية تماما، فإذا هي قد امتلأت بالغلال. ولا يكاد أهل القرية يفتحون الأبواب حتى تتدافع الغلال بقوة ووفرة.

عندنا في الشرق العربي والإسلامي الكثير من هذه الحوادث العجيبة، ولكنها لم تلق التسجيل أو الدراسة التي تستحقها.

إننا نستغرب هذا كله، لأنه ليس مألوفا. أي لا نجده في حياتنا العادية اليومية. وهذه الحياة العادية اليومية أصبحت هي الصورة أو النموذج الذي تسير عليه الأحداث. فإذا وجدنا شيئا يخالف هذه الصورة أو هذا النموذج، انهشنا لذلك ورفضناه. وبمعنى آخر. نفرض أن أحدا من الناس لم ير إلا القمر، فلو قلنا له أن الأشعة من الممكن أن تحرق الأشياء، فإنه لا يصدق. لأنه لم ير الشمس. ولم يعرف كيف أنها حارقة وإنها تقوم بتبخير الماء وإشعال النيران في الغابات.

لو أن أحدا لم يرى إلا الزنوج، وإلا الغابات وإلا الأكواخ، وقلنا له أن هناك أناسا بيضا وشقرا وأن هناك عمارات وناطحات سحاب، فإنه لن يصدقنا. وسوف يرى ما نقوله نوعا من الخرافة.

لو أن أحدا من الناس لم ير إلا القنوات والترع. وإلا إذا وقف على شاطئ، رأى الشاطئ الآخر، وحدثناه عن محيطات عميقة إذا وقفنا على الشاطئ فإننا لا نرى الآخر، فمن المؤكد أنه لن يصدقنا. ويجب أن نرى أنه معذور لماذا؟

لأن الذي نقوله ونحاول أن نقنعه به غير مألوف، غير عادي، وأنه ليس كالصورة التي أمامه، والنموذج الذي ترسب في عقله عن سير الأحداث اليومية. فنحن إذن ضحايا عاداتنا اليومية. ولذلك فكل ما ليس عاديا، ليس خرافيا. وإنما غير مألوف فقط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق